Tuesday, June 12, 2012



روى المقريزى قال

سار المنصور إلى مدينة سوسة لسبع بقين من شوال، وبعث فنادى في الناس بالأمان، ورحل إلى القيروان لست بقين من شوال، فخرج إليه الناس فأمنهم، ووجد بالقيروان حرما وأولاد لأبي يزيد، فحملهم إلى المهدية وأجرى عليهم الأرزاق.

وجمع أبو زيد العساكر، وبعث سرية يتخبرون له، فأرسل إليهم المنصور سرية، فالتقوا واقتتلوا، وهزموا أصحاب المنصور، وبلغ الناس، ذلك فتسرعوا إلى أبي يزيد وكثر جمعه، وزحف إلى القيروان، فواقعه المنصور حتى ظفر، وباشر بنفسه القتال، وجعل يحمل يمينا وشمالا، والمظلة على رأسه كالعلم، ومعه نحو خمسمائة فارس، وأبو يزيد في قدر ثلاثين ألفا، فانهزم أصحاب المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق، وبقي المنصور في نحو عشرين فارسا وقصده أبو يزيد، فلما رآه شهر سيفه، وثبت مكانه، وحمل بنفسه على أبي يزيد، حتى كاد يقتله، فولى أبو يزيد هارباً، وقتل المنصور من أدرك منهم، وتلاحقت به العساكر، فقتل من أصحاب أبي يزيد خلقاً كثيراً.

وكان يوماً من الأيام المشهودة التي لم يكن فيما مضى من الأيام مثله، وعاين الناس من شجاعة المنصور ما لم يظنوه، فزادت مهابته في قلوبهم.

ورحل أبو يزيد عن القيروان أواخر ذي القعدة، ثم عاد إليها غير مرة، فلم يخرج إليه أحد، ونادى المنصور: من أتى برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار.

وأذن للناس في قتال أبي زيد، فجرى قتال شديد انهزم فيه أصحاب المنصور حتى دخلوا الخندق، ثم عادوا فهزموا أصحاب أبي يزيد، وافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض، وكثرت القتلى من الفريقين، وعادت الحرب بينهما غير مرة، وأبو يزيد يبعث السرايا فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة.

ثم إنه بعث إلى المنصور يسأل حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان وأخذهم المنصور، ليدخل في طاعته، على أن يؤمنه وأصحابه، وحلف على ذلك بأغلظ الأيمان، فسير إليه المنصور عياله مكرمين، بعد أن وصلهم وكساهم، فلما وصلوا إليه نكث، وقال: إنما وجههم خوفا مني.

وانقضت سنة أربع وثلاثين وهم على حالهم.

ففي خامس المحرم سنة خمس وثلاثين - وثلاثمائة -  زحف أبو يزيد، وركب المنصور، وكان بينهما قتال ما سمع بمثله، وحملت البربر على المنصور، وحمل عليها، وجعل يضرب فيهم، فانهزموا بعد أن قتل خلق كثير.

فلما انتصف المحرم عبى المنصور عسكره، فجعل على ميمنته أهل إفريقية، وعلى ميسرته كتامة، وركب في القلب ومعه عبيده وخاصته، فوقع بين الفريقين قتال شديد، وحمل أبو يزيد على ميمنة المنصور فهزمها، ثم حمل على القلب فوقع إليه المنصور، وقال: هذا يوم الفتح إن شاء الله تعالى.

وحمل فيمن معه حملة رجل واحد، فانهزم أبو يزيد، وأخذت السيوف أصحابه، فولوا منهزمين، وأسلموا أثقالهم، وفر أبو يزيد على وجهه، وقد قتل من أصحابه ما لا يحصى كثرة، حتى أن الذي أخذه أطفال أهل القيروان خاصة من رؤوس القتلى عشرة آلاف رأس.

وأقام المنصور يتجهز، ثم رحل أواخر ربيع الأول، فأدرك أبا يزيد، ففر منه فتبعه، وصار كلما قصد أبو يزيد موضعا يتحصن فيه يسبقه المنصور إليه، واستأمن بعض أصحابه فأمنه المنصور، واستمر الهرب بأبي يزيد حتى وصل إلى جبل البربر وأهله على مذهبه ، وسلك الرمال، فاجتمع معه خلق كثير، وواقع عسكره المنصور، فهزم الميمنة، وحمل عليه المنصور بنفسه فانهزم، وتبعه المنصور إلى جبال وعرة، وأودية عميقة خشنة الأرض، فمنعت الأدلاء المنصور من سلوك تلك الأرض، وقالوا إنه لم يسلكها جيش قط.

واشتد الأمر على عسكر المنصور، فبلغ عليق كل دابة دينارا ونصفا، وبلغت قربة الماء دينارا، هذا وما وراء ذلك رمال وقفار وبلاد السودان التي ليس فيها عمارة، وقيل للمنصور: إن أبا يزيد اختار الموت جوعا وعطشا على القتل بالسيف.

فلما سمع المنصور ذلك رجع إلى بلاد صنهاجة، فاتصل به الأمير زيرى بن مناد الصنهاجي، بعساكر صنهاجة، فأكرمه المنصور، وأتته الأخبار بموضع أبي يزيد من الرمال.

ونزل بالمنصور مرض شديد أشفى منه، فلما أفاق من مرضه رحل إلى المسيلة ثاني رجب، فإذا أبو يزيد قد سبقه إليها لما سمع بمرض المنصور وهو يحاصرها، فلما علم بالمنصور هرب منه يريد بلاد السودان، فخدعه بنو كملان هم وهوارة ومنعوه من ذلك، وأصعدوه إلى جبال كتامة وغيرهم فتحصن بها، واجتمع إليه أهلها، وصاروا ينزلون ويتخطفون الناس، فسار المنصور عاشر شعبان إليه، فلم ينزل أبو يزيد، فلما أخذ المنصور في العود، نزل أبو يزيد إلى ساقة العسكر، فرجع المنصور، ووقعت الحرب، فانهزم أبو يزيد، وأسلم أصحابه وأولاده، وأدركه فارسان فعقرا فرسه، فسقط عنه، فأركبه بعض أصحابه، وأدركه الأمير زيرى فطعنه وألقاه، وكثر عليه القتال حتى خلصه أصحابه، وخلصوا به، وتبعهم المنصور فقتل منهم ما يزيد على عشرة آلاف.

وسار المنصور في أثره أول رمضان، فاقتتلوا أشد قتال، ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وخشونته، ثم انهزم أبو يزيد، وطلع أصحابه على رؤوس الجبال يرمون بالصخر، واشتد الأمر حتى تواخذوا بالأيدي، وكثر القتل حتى ظنوا أنه الفناء، وافترقوا على السواء.

والتجأ أبو يزيد إلى قلعة كتامة وهي منيعة فاحتمى بها، وأقبلت هواره وأكثر من مع أبي يزيد يطلبون الأمان، فأمنهم المنصور، وسار فحصر القلعة، وفرق جنده حولها، فناشبه أبو يزيد القتال، وزحف إليها المنصور غير مرة حتى ملك بعض أصحابه مكانا من القلعة، وألقوا فيها النيران، فانهزم أصحاب أبي يزيد، وقتلوا قتيلا ذريعا، وامتنع أبو يزيد وأولاده في قصر بالقلعة ومعه أعيان أصحابه، فاجتمع أصحاب المنصور، وأحرقوا شعارى الجبل حتى لا يهرب أبو يزيد فصار الليل كالنهار.

فلما كان آخر الليل خرج أصحاب أبي يزيد وهم يحملونه على أيديهم، وحملوا على الناس حملة منكرة، فأفرجوا له، ونجوا به، ونزل من القلعة خلق كثير، فأخذوا وأخبروا بخروج أبي يزيد، فأمر المنصور بطلبه، وقال: ما أظنه إلا قريبا منا.

فبينما هم كذلك إذ جاء الخبر أن ثلاثة من أصحاب أبي يزيد حملوه من المعركة لقبح عرجه، فذهب لينزل من الوعر فسقط في مكان صعب، فأخذ وحمل إلى المنصور يوم الأحد لخمس بقين من المحرم، وبه جراحات، فلما رآه سجد شكراً لله. وقدم به والناس يكبرون حوله، فأقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة؛ فمات من جراح كانت به، فأمر المنصور بادخاله في قفص عمل له، وجعل معه قردين يلعبان عليه، وأمر بسلخ جلده، وحشاه تبنا، وكتب إلى سائر البلاد بالبشارة.

وخرج عليه بعد أبي يزيد عدة خوارج، فظفر بهم المنصور.

ثم عاد المنصور إلى المهديلة في شهر رمضان سنة ست وثلاثين.

وكانت وفاة القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.

المصدر: اتعاظ الحنفاء للمقريزى 

No comments:

Post a Comment

  • Read this blog in another language